نظرية “اضرب مَن يضربك”: أسلوب لاسترداد الحق أم منهج تدميري للطفل؟

في عالم التربية الحديثة، تظل مسألة الرد على العنف بالسلوك المماثل إحدى النقاط الأكثر جدلاً بين الأسر والمربين. وبينما يروج البعض لمقولة “اضرب من يضربك” كطريقة لتعليم الطفل الدفاع عن نفسه، يراها آخرون بوابة خطيرة لترسيخ ثقافة العنف والعدوانية في نفوس الناشئة. ويكمن الإشكال الحقيقي في الفجوة بين نوايا الوالدين – الذين قد يسعون إلى تحصين أبنائهم ضد الإذلال أو التسلط – وبين الآثار النفسية والتربوية طويلة الأمد التي تترتب على تنشئة الطفل على قاعدة تقوم على الرد بالضرب.

الجذور الاجتماعية للمقولة

ترتبط عبارة “اضرب من يضربك” في الثقافة العربية الشعبية بمفاهيم الكرامة، وعدم السماح بالإهانة أو الخضوع. نشأت هذه الفكرة ضمن مجتمعات كانت القوة الجسدية معيارًا للهيبة، وكان الصمت عن الاعتداء يُعد ضعفًا، مما شجع على أنماط من التنشئة التي تحتفي بالشدة والمواجهة. غير أن هذا السياق لا يأخذ بعين الاعتبار تغيرات الزمن، وتحول المجتمعات نحو نظم قانونية وتربوية أكثر حضارية وتهذيبًا للسلوك البشري.

وفي المجتمعات التي لا تزال فيها سلطة الفرد تحكمها قواعد غير مؤسساتية، يصبح الرد بالمثل وسيلة يُنظر إليها بوصفها الوحيدة لاسترداد الحق، وتُغلف هذه الممارسة بمقولات متوارثة تزرع في الطفل من صغره ضرورة “إثبات نفسه” بالقوة، حتى لو أدى ذلك إلى نتائج وخيمة في المدى البعيد.

الأبعاد النفسية لنظرية “اضرب من يضربك”

الطفل في سنواته الأولى لا يملك بعد القدرة الكاملة على التمييز بين الدفاع عن النفس والعنف العدواني. حين يُلقن الطفل هذه القاعدة دون توجيه أو ضبط، فإن ذلك يبرمج جهازه النفسي على اعتبار العنف وسيلة مقبولة – بل محمودة – لحل الخلافات. ويؤدي هذا النمط من التنشئة إلى آثار خطيرة على مستويات متعددة:

1. خلل في تنظيم المشاعر والانفعالات

الطفل الذي يُعطى الإذن بالضرب كوسيلة للرد يتحول تدريجيًا إلى شخص غير قادر على إدارة انفعالاته بشكل صحي. يصبح أكثر اندفاعًا، ويعجز عن إيجاد حلول سلمية للمشكلات. وتتشكل لديه قناعة أن الغلبة للأقوى، لا للأذكى أو الأكثر حكمة، مما يقوض قدرته على تطوير مهارات التفاوض والحوار.

2. ترسيخ ثقافة الانتقام

التربية القائمة على الرد بالمثل، خصوصًا بالضرب، تؤسس لمنظومة فكرية ترى في العدوان أسلوبًا مبررًا لاسترداد الحقوق. ينشأ الطفل مهيأ للتورط في علاقات صراعية، حيث يتحول كل خلاف إلى معركة، وكل خطأ من الآخرين إلى مبرر للانتقام، عوضًا عن التفكير في الطرق القانونية أو التربوية لحل النزاعات.

3. إضعاف القدرة على التعاطف

عندما يتعلم الطفل أن الرد العنيف مبرر في حالات معينة، فإنه يفقد تدريجيًا قدرته على فهم مشاعر الآخرين وتقدير الظروف المحيطة بهم. يتوقف عن التعاطف، ويبدأ في تبرير إيذائه للآخرين بناءً على إيذاء سابق، ما يعكس ضعفًا في بناء الذكاء العاطفي والاجتماعي لديه.

التداعيات التربوية والسلوكية على المدى الطويل

تشير الدراسات النفسية الحديثة إلى أن الأطفال الذين يتربون على العنف كرد فعل يتعرضون لاحقًا لصعوبات في العلاقات الاجتماعية، ويميلون إلى السلوكيات العدوانية في المدرسة ومع الأقران. وقد تؤدي هذه السلوكيات إلى مشاكل تأديبية، وفقدان الدعم من المعلمين والأقران، إضافة إلى احتمال تكرار العنف في مراحل لاحقة من الحياة، سواء داخل الأسرة أو المجتمع.

ووفقًا لدراسة منشورة في Journal of Child Psychology and Psychiatry، فإن الأطفال الذين يعتمدون أسلوب العنف في التفاعل الاجتماعي يعانون في الغالب من ضعف في الأداء المدرسي، وتدهور في الصحة النفسية، وزيادة في معدلات الاكتئاب والقلق مستقبلاً، مقارنة بأقرانهم الذين تربوا على قيم التسامح والحوار.

الفروق الدقيقة بين الدفاع عن النفس والعنف

من المهم التمييز بين الدفاع عن النفس بوصفه تصرفًا اضطراريًا في حالات استثنائية، وبين العنف الذي يتحول إلى سلوك اعتيادي. فالدفاع عن النفس لا يعني بالضرورة الرد بالمثل، بل يتضمن الهروب من الموقف المؤذي، أو الاستنجاد بالكبار، أو استخدام لغة حازمة تُظهر الرفض دون إيذاء الآخر.

التربية السليمة تعلّم الطفل متى وكيف يدافع عن نفسه، دون أن تتحول تلك المهارة إلى أداة لفرض السيطرة أو ردع الآخرين بالقوة. وهذه الفروق الدقيقة يجب أن تكون حاضرة في ذهن الأهل والمعلمين عند تدريب الأطفال على التعامل مع المواقف الصعبة.

البدائل التربوية للنظرية العنيفة

بدلاً من قول “اضرب من يضربك”، يمكن تبني أساليب تربوية أكثر فاعلية وعمقًا لبناء شخصية قوية ومتزنة لدى الطفل. وتشمل هذه الأساليب:

1. تعليم مهارات التواصل الفعال

يجب تعليم الطفل كيفية التعبير عن مشاعره بالكلمات، ومتى يقول “لا”، وكيف يطلب المساعدة من الكبار إذا شعر بالتهديد. التدريب على الحزم دون عدوانية يعزز احترام الذات ويمنح الطفل قوة داخلية حقيقية.

2. تمكين الطفل من استراتيجيات حل النزاع

من خلال لعب الأدوار والقصص، يمكن غرس قيم احترام الآخر، والتسامح، واستخدام الحوار لحل الخلافات. هذه القيم تبني طفلاً سويًا قادرًا على الاندماج في المجتمع دون اللجوء إلى السلوك العنيف.

3. تعزيز الذكاء العاطفي

الذكاء العاطفي هو القدرة على فهم الذات والآخرين، وتنظيم المشاعر، واتخاذ قرارات سليمة تحت الضغط. ويُعد هذا النوع من الذكاء من أبرز مؤشرات النجاح في الحياة المهنية والشخصية لاحقًا. يمكن تعزيزه من خلال أنشطة مدرسية وعائلية تُنمّي الوعي بالذات والتعاطف مع الآخرين.

دور المدرسة في إعادة توجيه المفاهيم

في كثير من الأحيان، يلعب المعلمون دورًا حاسمًا في ترسيخ أو تقويض مفاهيم العنف لدى الطفل. حينما يرى الطفل أن المدرسة تعاقب العنف ولا تتغاضى عنه، فإنه يتعلم أن هناك ضوابط تحكم العلاقات الاجتماعية، وأن سلوك الآخرين السيئ لا يبرر الرد بالمثل.

والمعلم الذكي لا يكتفي بتلقين الطفل المعلومات، بل يعمل على بناء شخصيته من خلال تعزيز القيم الإنسانية، وتشجيعه على التفريق بين القوة والعنف، وبين الشجاعة والعدوانية.

أثر الإعلام في تكريس المفهوم

وسائل الإعلام، لا سيما في برامج الأطفال والألعاب الإلكترونية، تلعب دورًا كبيرًا في تطبيع العنف وتعزيزه. فعندما يشاهد الطفل بطله المفضل وهو يرد على الأذى بالضرب والانتصار في النهاية، تتشكل لديه قناعة أن هذا السلوك مقبول بل ومرغوب فيه.

لذا، فإن توعية الأسرة بضرورة اختيار المحتوى المناسب للأطفال، ومناقشة ما يشاهدونه، يشكل حاجزًا مهمًا أمام تبني مفاهيم خاطئة تؤدي إلى سلوكيات مدمرة.

مقارنة بين المجتمعات في التعامل مع العنف

في المجتمعات التي تولي أهمية كبرى للتنشئة السلمية، نجد أن المدارس والمجتمع المدني يعملان يدًا بيد لترسيخ قيم احترام الآخر والتسامح. بينما في مجتمعات أخرى، لا يزال العنف يُعتبر دليلاً على القوة، ويتم تشجيع الطفل بشكل مباشر أو غير مباشر على استخدام العنف تحت شعارات براقة مثل “الدفاع عن الكرامة” أو “عدم السكوت عن الحق”.

المنظور الإسلامي والتربوي

الإسلام بوصفه منهجًا متكاملًا في بناء الإنسان، لا يحث على العدوان، بل على ضبط النفس والصبر والعدل. قال تعالى: “وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين” (النحل: 126). فحتى في المواقف التي يُسمح فيها بالرد، يُفضل الصبر والعفو كخيار أفضل وأرقى.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يرد الإساءة بالإساءة، بل كان يعفو ويصفح، ويُعلّم أصحابه قيمة التسامح واللين. وهذه القيم يجب أن تكون هي الركيزة التي يبنى عليها السلوك التربوي تجاه الأطفال، لا تعاليم قائمة على رد الفعل العدواني.

الخاتمة

إن مقولة “اضرب من يضربك” قد تبدو للوهلة الأولى وسيلة لحماية الطفل، لكنها في الواقع بوابة خطيرة لتكريس س